التضخم في موريتانيا خلال الفترة (2019-2022)

إن إشكالية التضخم تطرح نفسها اليوم بإلحاح في سياق عالمي يتسم بأزمات متعددة الأبعاد: اقتصادية، صحية، جيوسياسية ومناخية.

 ويرمي هذا المقال إلى تحليل أسباب هذه الظاهرة بصفة عامة، ثم رصد تطور ها في موريتانيا في الفترة الأخيرة وبيان الإجراءات المتخذة للحد من انعكاساتها. 

 التضخم: المفهوم والأسباب

يشير مصطلح التضخم، إلى الحالة التي يشهد فيها الاقتصاد ارتفاعا مستمرا في المستوى العام لأسعار أغلب السلع والخدمات.. وبالتالي فإن أية زيادة مؤقتة في أسعار عدد محدود من السلع والخدمات لا يمكن اعتباره تضخما.

والواقع أن التضخم ظاهرة معقدة، وقد شغلت أسبابه الاقتصاديين منذ فترة طويلة وما تزال تثير الكثير من الجدل. فمن الناحية النظرية، انقسمت أراء الاقتصاديين حول أسباب التضخم المتعددة، حيث نظر إليه بعضهم من جانب نقدي بحت واعتبر أن له أسبابه النقدية، في حين يرى البعض الآخر أن ا جذوره ضاربة في الاقتصاد الحقيقي. كما يمكن في بعض الحالات لهذه الأسباب أن تتضافر فيما بينها وتؤدي إلى مزيد من تسريع مفعول ارتفاع الأسعار.

ويرى الاقتصاديون الكلاسيكيون وأصحاب المدرسة النقدية، أن التضخم ظاهرة نقدية صرف. وهكذا، وحسب ميلتون فريدمان، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1976، فإن " التضخم في كل زمان ومكان ظاهرة نقدية ".

ووفقًا لمنظري المدرسة الكينزية، فإن التضخم المدفوع بالطلب يحدث عندما يكون الطلب الكلي أكبر من العرض الكلي. وبالفعل، فعندما يكون عرض السلع والخدمات غير مرن وغير قادر على تلبية هذا الطلب المفرط، فإن الأسعار تدفع إلى الارتفاع من أجل استعادة التوازن.

وحسب بعض الاقتصاديين، فإن سبب التضخم لا يتأتى بالضرورة من الطلب، بل يمكن أن يتأتى من العرض. ويقال إن التضخم متأت من التكاليف عندما يكون ارتفاع المستوى العام للأسعار ناتجا عن ارتفاع التكاليف. وإذا ما ارتفعت تكاليف الإنتاج، فستقوم المقاولات لا محالة بإضافة هذه التكاليف إلى أسعار بيع منتجاتها بشكل يؤمن لها الحفاظ على أرباحها. وبعد ذلك، ينتشر التضخم في كل مفاصل الاقتصاد وذلك لأن منتجات بعض المقاولات تدخل في العملية الإنتاجية لمقاولات أخرى. وبالنتيجة، فإن تغير سعر بيع هذه المنتجات يؤدي حينئذ إلى تغير تكاليف المنتجات الأخرى. وقد يعود ارتفاع التكاليف لعدة عوامل كزيادة الأجور وغلاء المواد الأولية وزيادة الأعباء المالية (تكاليف الاقتراض) وارتفاع الاقتطاعات الضريبية (الضرائب على أرباح الشركات، الأعباء الاجتماعية، الخ).

كما " يمكن أن يحدث التضخم بسبب العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الخارج، وهو ما يعرف بالتضخم المستورد. فإذا تأثر اقتصاد بلد ما بصدمة فإن ذلك سيؤثر على شركائه. ذلك أن الارتفاع الكبير في أسعار السلع المستوردة من الأسواق الدولية (المواد الخام، المنتجات شبه المصنعة، السلع الرأسمالية، السلع الاستهلاكية...) يؤثر على الأسعار المحلية. وبالمثل، فإن انخفاض قيمة عملة بلد مقابل عملات شركائه التجاريين يؤدي إلى زيادة تكلفة المنتجات المستوردة. وتنتقل هذه الزيادة في أسعار الواردات تلقائيًا إلى الأسعار المحلية وتؤثر على الأسر بقدرما تؤثر على المقاولات"(بزباخ، 2011).

ويستخلص من العرض السابق للأدبيات أن التضخم قد يعود إلى عدة أسباب... كما أنه يشكل إحدى الظواهر التي حظيت باهتمام البنوك المركزية في الأشهر الأخيرة، بحكم ارتفاع الأسعار الذي يشهده الاقتصاد العالمي.

ونظرا للتقلبات التي يشهدها الاقتصاد العالمي والآثار الملموسة للسياسة النقدية الانكماشية المتبعة من معظم البنوك المركزية، فمن المتوقع أن التضخم الكلي سيبلغ ذروته خلال هذا الفصل في أغلب الاقتصادات الكبرى قبل أن يبدأ تراجعه مع نهاية سنة 2022 على أن يتواصل هذا التراجع خلال العام 2023 في أغلب دول مجموعة العشرين.

ويثير التضخم المرتفع الذي يشهده العالم وانعكاساته المحتملة جدلا واسعا، وأشار صندوق النقد الدولي إلى أن من بين الأسباب الرئيسية للتضخم الحالي، ما يلي:

-        التذبذب على مستوى سلاسل التموين ؛

-        الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها على التموين من منتجات الطاقة والسلع الغذائية؛

-        إعادة توجيه الطلب العالمي على السلع بدلا من الخدمات؛

-        خطط الانتعاش الاقتصادي في أغلب البلدان عقب الموجات المتتالية من جائحة كوفيد 19؛

-        تداعيات الجائحة على المعروض من اليد العاملة.   

    أدوات قياس التضخم

في موريتانيا، يُقاس التضخم من خلال المؤشر الوطني لأسعار الاستهلاك. وهكذا، تعد الوكالة الوطنية للإحصاء والتحليل الديموغرافي والاقتصادي وتنشر مذكرة شهرية تحدد قيمة المؤشر المذكور.

يقيس هذا المؤشر (الأساس 100 = 2019) تطور الأسعار على المستوى الوطني. ويغطي المؤشر الوطني لأسعار الاستهلاك البلد بأكمله مقسما إلى 5 مناطق، وهي الشرق والجنوب والشمال وداخلة نواذيبو ونواكشوط. هذه المناطق الخمس ممثلة على التوالي بمدينة لعيون، وروصو، وأطار، ونواذيبو ونواكشوط.

ينشر المؤشر الوطني وفقًا لتصنيف استهلاك الأسر المكون من 12 وظيفة حسب المنهجية المعتمدة. ويغطي هذا المؤشر 616 سلعة، تتابع في 2749 نقطة بيع من خلال 19700 كشف شهري للأسعار. وتستخلص الترجيحات من خلال المسح الدائم حول الظروف المعيشية للأسر.

  تطور التضخم في موريتانيا

بلغ مستوى التضخم على المستوى الوطني خلال شهر سبتمبر 2022 (+ 11.3% للمؤشر العام و17.7% للمنتجات الغذائية حسب الانزلاق السنوي) مشابهًا إلى حد كبير لما هو ملاحظ في البلدان المجاورة. ففي نفس الفترة، سجل مؤشر أسعار الاستهلاك في كل من السنغال والمغرب على التوالي ارتفاعا بلغ 11.9% و8.3% كانزلاق سنوي.

Image removed.

المصدر: الوكالة الوطنية للإحصاء والتحليل الديموغرافي والاقتصادي

وبخصوص التطور السنوي، ظل المؤشر الوطني لأسعار الاستهلاك، عند مستويات معتدلة في حدود 2.4% عام 2020، قبل أن يتسارع في عام 2021 ليصل إلى 3.6%.  ويعود هذا الارتفاع في أسعار الاستهلاك بشكل أساسي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 5.8% خلال عام 2021 مقارنة بالعام السابق وذلك تحت تأثير جائحة كوفيد 19. ذلك أن المنتجات الغذائية تمثل 50% من تركيبة السلة المنزلية مع تكافؤ شبه متساوي بين المنتجات المستوردة (49.4%) والمنتجات المحلية (50.6%). وتتعلق الزيادة العامة في أسعار المنتجات الغذائية بالمنتجات المحلية (5%) والمنتجات المستورة (7%). وبشكل عام، ترتبط هذه الزيادة في أسعار المنتجات الغذائية إلى حد كبير بارتفاع أسعار زيوت الطبخ (16.9%)، والحبوب غير المصنعة (7.0%)، والسكر (6.4%.)

أما في الأسواق العالمية، فقد ارتفعت أسعار المنتجات الغذائية بشكل عام بنسبة 28% مقارنة بالعام السابق والحبوب بنسبة 27%، والزيوت النباتية بنسبة 66%، والسكر بنسبة 37% وفقا لمؤشر أسعار السلع الغذائية الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة.

وقد شهد معدل التضخم تسارعا في الأشهر التسعة الأولى من عام 2022 ليصل إلى 7.8%(كمتوسط تغير خلال الاثني عشر شهرا الماضية)، حيث انتقل متوسط التغير الشهري من 0.3% سنة 2019 إلى 0.2% سنة 2020، ليصل إلى 0.5% سنة 2021 ويتضاعف بعد ذلك خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2022 (+ 1).

تحليل التغير حسب وظائف الاستهلاك خلال 2022  

  • تضخم مدفوع أساسا بأسعار المواد الغذائية

في سبتمبر 2022، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 12.6% خلال الاثني عشر شهرًا الماضية، ويرجع ذلك أساسًا إلى زيادة الأسعار المسجلة على مستويات المجموعات الفرعية: "السكر والمربى والعسل والشوكولاتة والحلويات" (+ 31.5%)، "الزيوت والدهون" (+ 28.7%)، "اللحوم" (+ 18%)، "الخبز والحبوب" (+ 11.4%) و"الحليب والجبن والبيض" (8.7+ % (.

تمثل المنتجات الغذائية 18%، 28% و25% من إجمالي الواردات في 2019 و2020 و2021 على التوالي. وخلال النصف الأول من عام 2022، مثلت المنتجات الغذائية 30% من إجمالي الواردات من حيث القيمة.

أما المنتجات الغذائية الرئيسية التي تم استيرادها في النصف الأول من عام 2022 فهي: "الحبوب غير المصنعة" (33%)، "السكر والحلوى" (28%)، "الزيوت والدهون الحيوانية" (14%)، "الخضروات" (8٪) و"الحليب ومشتقاته" (7+ % (.

  • زيادة تكلفة السكن

على مدار اثنى عشر شهرًا، ارتفعت أسعار هذه الوظيفة بنسبة 3%، ويفسر هذا الارتفاع بشكل أساسي بالزيادة الملحوظة على مستوى المجموعة الفرعية "المحروقات (الفحم والحطب)" (+ 10%) و "مواد صيانة وإصلاح المساكن " (+9.6% (.

  • زيادة تكلفة النقل

ارتفعت أسعار وظيفة "النقل" على مدار 12 شهرًا بنسبة 2.6%، ويرجع ذلك أساسًا إلى الزيادة في الأسعار المسجلة على مستوى المجموعات الفرعية "الوقود وزيوت التشحيم" (+ 10.5%) و "النقل البري للركاب" (+2.6% (

أهم موردي الأغذية في موريتانيا

في عام 2021، تم استيراد 30% من "الحبوب غير المصنعة" من أوكرانيا وروسيا، و21% من الأرجنتين، و18% من فرنسا و7% من إسبانيا، بينما خلال النصف الأول من عام 2022، تم استيراد 75% من الأرجنتين فقط إثر الأزمة الأوكرانية.

وتم خلال النصف الأول من عام 2022 استيراد 46% من "السكر والحلوى" من البرازيل، و41% من غواتيمالا و13% من الجزائر. كما تم استيراد "زيوت الطعام" بنسبة 40% من إندونيسيا، و30% من ماليزيا، و15% من سنغافورة، و8% من المغرب، و5% من الجزائر. وتم استيراد 54% من "الخضار" من المغرب و45% من هولندا.

 

حصة الواردات حسب الدولة (الفصل الأول 2022):

Image removed.Image removed.

Image removed.Image removed.

المصدر: الوكالة الوطنية للإحصاء والتحليل الديموغرافي والاقتصادي

ويعود التضخم في موريتانيا بالأساس إلى التضخم المستورد. فعندما يزيد مستوى الأسعار في منطقة اليورو مثلا كشريك أساسي لموريتانيا، ينعكس ذلك بصفة مباشرة على مستوى التضخم في بلادنا، حيث أن تطور الأسعار المحلية يرتبط بالأساس بمستويات أسعار المواد الغذائية لدى الشركاء الذين نستورد منهم هذه المواد، ويفسر هذا الارتباط بالأهمية النسبية لحجم المواد الغذائية في مجموع الواردات.

وعادة ما يتم الشعور بالزيادات في الأسواق العالمية بشكل عام دون تأخير في السوق المحلي بحدة أكبر. وبالمقابل، فنادرا ما يتم الشعور بالانخفاضات المسجلة في الأسواق الدولية على المستوى المحلي، خاصة على سعر التجزئة بسبب مضاربة التجار. ويترتب على ذلك أن التضخم ينشأ  عن مفعول القصور الذاتي، وهو ما يعني أن ارتفاع الأسعار في الشهر المنصرم يقود تلقائيا إلى زيادة التضخم في الشهر الجاري.

 ويقيس المؤشر الوطني لأسعار الاستهلاك تطور أسعار التجزئة لسلة من السلع والخدمات التي تم اقتنها الأسر خلال فترتين مختلفتين. وبما أن سعر التجزئة مرتفع عموما (بشكل غير طبيعي) في السوق المحلية، فإنه يتفاعل بشكل ضعيف مع التغيرات في أسعار الجملة أو شبه الجملة ومع الانخفاض في الأسعار الدولية. ويظهر التحليل المقارن لتطور أسعار الجملة وشبه الجملة والتجزئة خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2022 تغيرات متبايتة لبعض المنتجات مثل الأرز والزيت والسكر والفواكه والقمح والحليب التي تعتبر منتجات استراتيجية.

 إجراءات معالجة التضخم في موريتانيا

في إطار السعي لدعم الفئات الهشة، ومن أجل ضمان تموين السوق والحد من آثار ارتفاع أسعار المواد الغذائية على المستوى العالمي، اتخذت الحكومة عدة إجراءات استعجالية وأخرى على المدى البعيد.

 فيما يخص الإجراءات الظرفية المتخذة -على المدى القصير- للحد من انعكاسات التضخم، نذكر، على سبيل المثال لا الحصر: عمليات رمضان، وبرنامج التحويلات النقدية، وعمليات توزيع الأسماك والمواد الغذائية وبيعها بأسعار مدعومة، وإعادة توجيه الدعم الموجه للمحروقات لتعزيز هذه الإجراءات.

 وفيما يتعلق بسياسات مكافحة التضخم، اتخذت السلطات العمومية جملة من الإجراءات الهيكلية تتعلق على وجه الخصوص بالسياسة النقدية، وسياسة الصرف والسياسة الضريبية والتجارية وتطوير الزراعة. أضف إلى ذلك إنشاء مركزية للشراء وتموين السوق بغية ضمان تموين البلاد من المواد الغذائية الأساسية وتثبيت الأسعار. 

 وقد ساهمت جميع الإجراءات السالفة الذكر، المتخذة من طرف الحكومة، بشكل فعال في الحد من ارتفاع بعض السلع والخدمات الأساسية، مما انعكس إيجابا على القدرة الشرائية للمواطنين وخاصة الأكثر هشاشة. 

Documents
التضخم.docx (3.13 ميغابايت)